الوطن هو المساحة الجغرافية التي نعيش عليها، تسكننا حتى وإن كنا غائبين أو مغيبين عنها تشاركنا أرواحنا وتخفق مع كل نبضة من نبضات أفئدتنا، نحميه وندافع عنه وندفع به باتجاه كل ما فيه الخير ويدرأ عنه الوقوع بالخطر. لا يمتلك أي شخص الوطن، ولا يختزل فيه، بل الوطن يجمعنا جميعاً بكافة مكوناتنا واختلافاتنا وتجاذباتنا واختلاف أعراقنا ومعتقداتنا ومذاهبنا وأطيافنا، لا فضل لأحد على أحد فيه فالكل فيه شركاء سواسية في الحقوق والواجبات. الوطن هو تلك الفسسيقساء الرائعة التي تجمع تشكيلات بالغة التفرد والجمال.
في المحنة التي يمر بها تراب الوطن وأبنائه بدأت تلوح وتتفشى عادة جاهلية قبيحة هي التخوين، تحاول نزع رداء لا يجوز أن ينزعه أحد من أبناء الوطن من أخيه، هي ركام متواصل من عدم الاعتراف بالآخر وأفكاره، حتى وإن كانت محترمة، وإن كانت محقة.
إن سياسة الإقصاء وعدم احترام آراء الغير كنتاج عن انتشار الأنظمة الشمولية في الدول العربية هو مسبب رئيسي لحالة المراوحة في المكان بل وإمكانية التقهقر للوراء مع وجود محفزات التناحر بكل مفاصلها محتقنة ضمن أساليب الرفض والتنكيل واحتكار الحقيقة والتغييب القسري للطرف المقابل واعتبار أن الفكر الإنساني فكر متطابق ومتماثل هو أمر يجب الرجوع عنه لأنه لا يوّلد إلا أزمات تظهر مفاعليها في مراحل متقدمة تشكل عبئاً بدلاً عن أن تكون حالة انفراج مرتقبة لأنها أشبه بمن يحاول البناء بيد واحدة حيث تم استثناء اليد الأخرى منها، أحياناً قد يكون تم بترها بالاستغناء الجبري عنها.
إن إتباع تعليب الأفكار والوصائية والاستئثار بالقرار والإنفراد بتوزيع صكوك الوطنية والشرف على فئة من الفئات وإهمال باقي النسيج الوطني ووجهة نظره المختلفة والتي تقدم صورة مختلفة بل ومغايرة أحياناً عن ما تراه الأنظمة الرسمية هو ممارسة قمعية لا تخدم الوطن في شيء من حيث القيام بعملية فرز سلطوي غير محق في تمتين أي صورة متماسكة ونهائية ما دامت صورة مجتزأة غير واضعة في الحسبان تكامل أركانها.
إن الاعتراف بالآخر المختلف فكراً ورؤية، في ما لا يمس الأخلاق العامة والأديان السماوية، هو من حقوق المواطنة التي يجب أن ينشغل الجميع بتطبيقها قولاً وفعلاً في مجتمع نامت فيه حقوق أولئك الذين طالما تم تغييبهم عن ساحة اتخاذ القرار بحجج مختلفة مفادها أنهم قاصرين وغير راشدين ليسمح لهم بالحديث عن حقوقهم وحقوق الذين لا يعرفون عن حقوقهم أكثر من كونهم مجرد أرقام تستخدم في أوقات الحشود للتأييد والمبايعات التي لا تكاد تنتهي.
إن المواطنة تستلزم مكاشفة واضحة وصريحة وتستلزم قبولاً بتحمل المسؤولية حين وقوع الخطأ الكبير قبل الصغير وتصحيحه مهما تكلف ذلك من إحراج.
إن المواطنة تتطلب وعياً من المسؤول قبل المواطن في تحمل تبعات رفع الوعي المواطن الذي غيبه بعض المنتفعين سنين طوال.
إن المواطنة تستلزم الوقوف مطولاً أمام المزاودين وتصنيفهم وتنظيف مواقع المسؤولية منهم لأنهم يعودون بالضرر على أي عملية حوار مطلوبة بين كافة الأطراف فهم المتضررون الأوائل كون زيف ادعائهم سيتكشف ويتضرر ناهيك عن كون اختيارهم تم على مدى ولائهم لا أدائهم.
إن المواطنة تستلزم دوام التأكيد على تبادل السلطة وتبادل المهام بكل مرونة ممكنة ومنع الاحتفاظ بمناصب عليا أو دنيا حتى تدور عجلة الزوايا المختلفة التي تقدم حلولاً ورؤى مختلفة للقضايا المتنوعة المصيرية منها والثانوية، فقد سئمنا من تكرار نظريات المربعات التي تراوح في المكان!!!
إن المواطنة هي عملية تشاركية يشارك فيها المواطن بصناعة القرار ومجريات الأمور، تشتد جذورها، كلما أحس المواطن أن له قيمة في ما يجري ويدور حوله من أحداث، حيث يلاحظ أنه كلما كانت المواطنة تمارس على أرض الواقع اليومية. فتجد نائبه بالبرلمان يخاف منه كمواطن وكناخب يحدد مصيره، وتجد الحكومات ورؤسائها في حالة ترقب لمدى رضى الجماهير الشعبية عن أدائها ومناقشة برامجها التي تطيح بها إن لم تنفذ على أكمل وجه، وليس حالة المواطن النعامة، الذي يمشي الحيط الحيط ويا رب السترة، أو تلك المواطنة المقّزمة التي تعترف بالمواطن فقط في حالة تأديته للواجبات وتقنين الحقوق وعصرها عصراً حتى بات هذا المواطن مجرد حقل تجارب في كل المجالات الضريبية والحقوقية وحتى السياسية وعليه القبول فقط والهتاف بدون انقطاع مرددا شعارات تم إفراغها من محتوياتها من كثرة التكرار.
إن المواطنة هي الروح التي تثبت في قلوبنا حب الوطن الغريزي وتزيده تشبثاً في حالات الاختلاف الفكري تجاه الأمور وقراءتها بشكل مختلف ومغاير لما يجده الآخرون لا حملات التشنيع والترهيب كالتي قام بها فنانون قاموا باستعراض رخيص من بيع الوطنيات وإلقاء التهم جزافاً ليظهروا بمظهر الوطنيين وليمارسوا ساديتهم التخوينية، وكأنه علينا الفصل بين دماء الشهداء من المواطنين ومن الشعب وبين معاناة الأطفال!!!! لنكتشف لاحقاً أن داء التخوين يتفشى بين كافة الطبقات ومرده يعود لغياب هذه الثقافة أصلاً حتى على مستوى الأضواء والنخب الفكرية منها والسياسية.
الوطنية يا سادة تستدعي الوقوف عند الأخطاء والإحاطة بها وتطويقها والحديث عنها بحالة المواجهة والعلنية وتجريم ومحاسبة من يقوم بالجسيم منها أو يلتف عليها، والحديث عن الأخطاء لا يستدعي تصنيف من يتحدث بها ضمن من يقومون بالنيل من هيبة الدولة أو المثبط الذي يوهن الشعور القومي للأمة عن طريق بث معلومات إذاعة أنباء كاذبة من شأنها أتوهن نفسية الأمة
كاذبة!!!!
إن الحوار يا سادة هو ركيزة أساسية من أساسيات تصحيح أي خطأ جسيم قد يقوّم ما اعوج في غير ذات غفلة من الزمان، فرضه استفراد بالقرار ونظرة قاصرة، لكنه، أي الحوار، يحتاج مكونات مختلفة لا مكونات متماثلة طالما كانت مجرد مستمع ومتلق لا يضيف سوى المزيد من عبارات المديح والثناء. الحوار حالة من التعايش الايجابي يفترض أن لدى الجميع آراء فيها الصحيح وفيها الخاطئ ويتم انتخاب الأفضل والأكثر ملائمة فيها للمواطنين والوطن.
لا نستطيع الاحتفاظ بأمان الوطن عن طريق تجاهل البحث عن الحلول والمسببات بدلاً عن معالجتها ومواجهتها بشكل مباشر أو إخفاء الوقائع كاملة غير منقوصة على الأرض، لأن تجييش المواطنين ضد بعضهم البعض أمر خطير لا يمكن السيطرة عليه إن تخطى مراحل معينة من التحريض لأنه سيخلق حواجز مرتفعة من انعدام الثقة والاعتراف بالآخر بدلاً من بناء جسور القبول بالآخر والحضّ على تشارك صناعة القرار في مرحلة استعادة الوعي الحضاري الذي احتضنته هذه البقعة الجغرافية من العالم منذ بدء الحضارة الإنسانية.فالخلاف بالرأي لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون مآله الاعتقال والضرب والتعذيب والتخوين!!!وأن يكون الطرف الذي يمتلك السلطة هو الراشد الوحيد الذي يمتلك الصورة المتكاملة الموثوقة التي يجب أن يتم المصادقة عليها بدون حتى نقاش!!
الإعلام الغربي والخارجي يجيش؟ نعم هذا صحيح،ولكنه لم يكن يوماً حيادياً ولن يكون، على عكس ما يجب أن يكون عليه إعلامنا الوطني المتخاذل الذي يخسر يوماً بيوم الفئة الصامتة والتي هي الفئة الكبرى بين الموالين والمعارضين عن طريق بث أخبار تستهزئ بعقلية المشاهدين أو تلك التحريضية منها.
هناك أياد خارجية؟ نعم هذا صحيح وغير مستبعد، لكن السؤال الأصح يكون هل كل ما حدث كان بأيد خارجية وما هي هذه النسبة؟ أم أن عناصر الفساد المستشري والتي ستخسر كل مكتسباتها التي تعتبرها حقها الطبيعي في خيرات الوطن ومن مصلحتها أن تضخم حجم هذه التدخلات؟ ثم أليست هي صاحبة اليد الطولى في تجاهل حتى مقررات المنصب الرئاسي؟
إن المرحلة الحرجة الراهنة التي نمر بها تتطلب وجوب الوعي في كافة أرجاء الوطن، فهو بحاجة لكل واحد فينا، ففي الوقت الذي يحتقر الواحد فينا رأي الآخر ويظهر عدم تقبله له بوقاحة ويصعدها باتجاه التخوين فإنه يزيد النار اشتعالاً ويغذي الضغينة بين الأطراف التي من المفروض أنها تشكل درع الوطن ضد كافة التدخلات الخارجية...... ابتعدوا عن صيغ التخوين أيها السوريون .