خمر إلى منه تساقى بالارياق
تعد قصيدة شاعر نجد الكبير المرحوم / محمد العبدالله القاضي , في القهوة من نوادر ومعلقات الشعر النبطي , وقد طارت شهرتها في الآفاق , وحظيت كغيرها من قصائده -رحمه الله - بنصيب وافر من القبول لدى متذوقي الشعر الأصيل . ولا غرو فالقصيدة نادرة في بابها لما اشتملت عليه من دقة في الوصف , وإبداع في التصوير , وتأنق في اختيار الألفاظ وتسلسل في الأفكار يدل على تمكن هائل من زمام الشعر , وقدرة عجيبة على الغوص في تفاصيل صناعة القهوة دون أدنى شائبة من نبوّ في اللفظ , أو تكلف في الأسلوب .
وقد ذكر بعض رواة المجالس قصة مصاحبة للقصيدة تزعم أنها نتاج رهان جرى بين القاضي ومجموعة من أصدقائه , على أن يأتي بقصيده كاملة ليس فيها غزل أو تشبيب , وكان الرهان في زعمهم أن من يخسر يعزم أهل البلد , فلما كان من الغد وهو الموعد المضروب لتنفيذ المطلوب , اجتمعوا ليستمعوا , وكان صاحب البيت هو زعيم الرهان , ويقال إنه اتفق مع أخته أو ابنته أو زوجته على أن تجلس قريبا من غير أن تُرى وتستمع للقاضي , فإن رأت أنه سيكسب الرهان تمر من امامه عن بعد , بعد أن تظهر شيئا من محاسنها , علّه يميل إلى الغزل فيخسر الرهان .
يقول الرواة : ثم إن القاضي انطلق في القصيدة فلما أحست الفتاة أنه يكاد أن ينهيها دون أن يتعرض للغزل , خرجت ورآها القاضي , ثم التفت إلى صاحب البيت قائلاً : ها الحين يا طويل العمر يحتاج ! , فقال : يحتاج ماذا ؟
فقال القاضي :
يحتاج من خمر السكارة إلى فاق . . طفل تشف شفاه والعنق مفهوق
ثم انطلق في الغزل حتى أتم القصيدة معترفا بخسارته للرهان .
والحق ان التهافت - كما يبدو للقارئ - واضح في هذه القصة المزعومة , لأسباب متعددة , منها أنه من غير المعقول أن يرضى صاحب البيت بأن يعرض محصناته بقصد الفتنه لضيوفه حتى ولو كان من أفسق الفاسقين , وأفجر الفاجرين , وخصوصا في مجتمع نجدي مثل مجتمع عنيزة , وإن لم يكن المانع الدين فهو سلطان العادات والتقاليد التي تقدس مكارم الأخلاق وتحتقر مخالفيها ؛ ومنها أن هذا الزعم يتنافى مع أخلاق وسجايا المرحوم / محمد العبدالله القاضي , الذي عرف عنه أنه من وجهاء البلد , وأنه لا يجالس الرعاع وسفلة القوم , والذي بلغ من مكانته ووجاهته وهيبته أن أمير عنيزة وقتها المرحوم / عبدالله اليحيى السليم , ونائبه داهية الدهاة الأميرالشاعر القائد / زامل العبدالله السليم , لم يوجها له كلمة عتاب واحدة عندما مدح طلال الرشيد , وهو عدوهما الألد , وأبوه وعمه قاتلا أبويهما ! لم يوبخاه لأنهما يقدران الرجال ويحفظان مقامات الناس . . ورجل بهذه المكانة والمنزلة لايسمح لآحد بأن يضعه في هذا الموضع المشين ولا يخالط هذا النوع من الناس ! رحمه الله ؛ ومنها ما يعود إلى القصيدة التي تفترض القصة المزعومة أن هناك انقطاعا فكريا ونفسيا فيها سببه أمر طارئ هو ظهور الفتاة , فاتجهت من الوصف إلى الغزل . وعند تأمل القصيدة لا نجد شيئا من ذلك ألبتة , فهو ذكر همومه وكيف عالجها بأن اشترى حبوب القهوة , ونقاها , ثم حمصها , ثم دقها , ثم طبخها , ثم بهرها , ثم شربها ,, فلما أروى كيفه وحاجته إليها التفت إلى متعة أخرى تكمل هذه المتعة وهي ملاعبة فتاة جميلة , وهذا ديدن الشعراء . فأين التوقف المفاجئ المزعوم ؟! لايوجد له أي أثر لأن القصة في الأساس مختلقة , ولم تروها المصادر المعتمدة , وخصوصا رواية الربيعي رحمه الله الذي يذكر مناسبات القصائد .
وزعموا كذلك أن الرهان يقضي بأن يكون عدد أبيات القصيدة مئة بيت , وهذه القصيدة عدد أبياتها اثنان وثلاثون بيتا لا تزيد .
وزيادة على هذا النفي الذي أراه موضوعيا كنت قد سألت حفيد الشاعر ووراث مجده الأدبي صاحب قصيدة ( العنيزية ) الشهيرة الأستاذ الأديب الشاعر / عبدالعزيز المحمد الحمد المحمد العبدالله القاضي ( أبو خالد ), أمد الله في عمره ومتعه بالصحة والعافية ؛ سألته قبل فترة طويلة عن صحة القصة , فظهرت على وجهه علامات الألم والانزعاج ورد بلهجة تكاد تقترب من البكاء بما معناه أن الرواة قد كذبوا على جده ووضعوه بهذه الصورة الوضيعة , ثم تحسب عليهم .
ومما ينبغى التنبيه إليه أن كثيرا من رواة المجالس -المسولفجية - يخلطون مع القصيدة أبياتا ليست منها , كالبيت :
كنه مع الدلال يجلب بالأسواق . . وعامين عند معزل الوسط ما سوق
وهو لراعي قفار الشاعر الكبير المرحوم / زيد السلامة الخوير , من قصيدته الشهيرة التي مطلعها:
باح العزا يا ديب قم دن الأوراق . . قرطاس شامي صافي تقل غرنوق
ولم يسلم من ذلك الخلط شيخ أدباء الشعر النبطي الأستاذ عبدالله بن خميس, أمد الله في عمره ومتعه بالصحه والعافية , فقد أدخل - سهواً - هذا البيت في قصيدة القاضي عندما اختارها لتكون نموذجا للشعر النبطي في كتابه ( الأدب الشعبي في جزيرة العرب ).
ومما أدخل في القصيدة مما ليس منها كثير من أبيات قصيدة الخوير المذكورة , وكذلك بيت عبدالله البراهيم الجابر الخويطر الشهير بابن جابر (ت 1291 هـ ) :
والله لو يمشي شقاق بالأسواق . . بين الملا ما يمطخ الخمس مخلوق
وهناك عدد من القصائد المشابهة لقصيدة القاضي . منها قصيدة الخوير المشار إليها , وقصيدة ابن جابر المذكورة وكان قد أسندها إلى صديقه الشاعرعبدالعزيز المحمد العبدالله القاضي , ابن شاعرنا , وقصيدة للغصاص . وهناك عدد من القصائد التي عارضتها , ومن أهمها قصيدة للشاعر الكبير مرشد البذالي , وأخرى للشاعر الكبير عبدالله بن نايف بن عون . . وغيرهما.
ونزولا عند رغبة بعض الأصدقاء , يسرني هنا أنا أنشر القصيدة - ولأول مرة - برواية شيخ الرواة, أصمعي الشعر النبطي , صناجة عنيزة المرحوم / عبدالرحمن البراهيم الربيعي ( ت1402 هـ ) , ولا يعني هذا أن القصيدة الصحيحة لم تنشر من قبل , بل نشرها المرحوم خالد الفرج (ت 1373 هـ ) في ديوان النبط اعتماداً على مخطوط لديوان الشاعر بخطه أطلعه عليه المرحوم/ محمد الحمد المحمد العبدالله القاضي , حفيد الشاعر . وقد ضاع هذا المخطوط ـ ولشديد الأسف ـ بوفاة الأستاذ / خالد الفرج , الذي ظن أن هذا الإطلاع إهداء !! ذكر لي هذا الكلام أبو خالد نقلا عن والده الذي سلم الديوان ومعه أشعار لأبناء الشاعر , وقصائد لابن عمه الشاعر الفحل / محمد الصالح القاضي (ت1250هـ) تقريبا الذي خسر الأدب بوفاته ولما يتجاوز الثلاثين من عمره شاعرا كبيرا .
وقد نشرت القصيدة ـ نقلاً عن ديوان النبط ـ في عدد من الدواوين والمجاميع الشعرية , منها الجزء السادس من الأزهار النادية , للمرحوم /محمد سعيد كمال , وديوان الشاعر / محمد العبدالله القاضي , الذي نشره خالد الخاتم سنة 1404 هـ , وغيرها . ومن المجاميع ( خيار ما يلتقط من الشعر النبط ) لخالد الحاتم , و( منتخبات من الشعر النبطي ) لمجهول , وسبب عدم كتابة اسم المؤلف واضح وهو أن الكتاب ( ملطوش ) لأنه في الحقيقة هو الجزء الثاني من كتاب الحاتم ( خيار ما يلتقط) , ومنها كتاب البابطين ( أحلى الكلام ) ولست متأكدا من هذا الاسم . . وغيرها.
وإليكم القصيدة برواية الربيعي رحمه الله :
[poem=font="Simplified Arabic,6,white,bold,normal" bkcolor="darkblue" bkimage="" border="outset,10,white" type=2 line=0 align=center use=ex num="0,black"]
يا من لقلب كل ما التم الاشفاق=من عام الأول به دواكيك وخفوق
يجاهد جنود في سواهيج الإطراق=ويكشف له أسرار كتمها بصندوق
إلى عن له تذكار الأحباب واشتاق=باله وطف لخاطره طاري الشوق
قربت له من غاية البن ما لاق=بالكف صافيها عن العذف منسوق
احمس ثلاث يانديمي على ساق=ريحه على جمر الغضا يفضح السوق
واحذرك والنية وبالك والاحراق=واصحا تصير بعاجل الحمس مطفوق
الى اصفر لونه ثم بشّت بالاعراق=صفرا كما الياقوت يطرب لها الموق
وعطّت بريح فاضح فاخر فاق=لا عنبر ريحه بالأنفاس منشوق
كبه بنجر يسمعه كل مشتاق=راع الهوى يطرب إلى دق بخفوق
واحشه بدلة مولع كنّها ساق=بلورة مربوبة تقل غرنوق
خله تفوح وراعي الكيف يشتاق=إلى طفح له جوهر صح له لوق
أصغر قموره كالزمرد بالاشعاق=واكباره الطافح كما صافي الموق
زله على وضحا بها خمسة أرناق=هيل ومسمار بالأسباب مسحوق
مع زعفران والشمطري إلى انساق=والعنبر الغالي على الطاق مطبوق
إلى اجتمع هذا وهذا بتيفاق=صبه كفيت العوق عن كل مخلوق
بفنجال صين صافي عنه الارماق=تغضي وكرسيه غدان لمعشوق
إلى صب فابصر جوهره تقل شبراق=رنق تصور بالحمامة على الطوق
شكل غرا الفنجال لونه كما انراق=دم لقلب وإن مزع منه معلوق
خمر إلى منه تساقى بالأرياق=عليه من ما صافي الورد مذلوق
راعيه كنه شارب كاس ترياق =كاس الطرب وسرور من ذاق له ذوق
يحتاج من خمر السكاره إلى فاق=خشف تشف شفاه والعنق مفهوق
عبث يعيل بحبةٍ منه ماماق=وهو يضاهي زاهي البدر بشعوق
بين اشفيته إلى غنج بارق حاق=عجل رفيفه بارقه غرق بطبوق
سحر كتب من حبر عينيه باوراق=خديه صادين ونونين من فوق
كن العرق بخدودها حصّ أرناق=ينثر على صفحات بلورة الشوق
إلي تبسم شع وأشرق بالآفاق=نور يفوق البدر مع حسن منطوق
بالعنق كنّ الورس والمسك به راق=ما مشخص في صدره الشاخ مدقوق
يمشي برفق خايف مدمج الساق=يفصم حجول ضامه الثقل من فوق
إلى صفا لك ساعة وأنت مشتاق=فاقطف زهر مالاق فالعمر ملحوق
وإلى حصل ما قيل عندي فالارزاق=بيد كريم كافل كل مخلوق
هذا وصلّوا عد ما ناض برّاق=أو ما شكا الفرقى شفيق ومشفوق
على النبي ما زِج زاج بالأوراق=وآله وصحبه عد ما سيق مسيوق[/poem]