قلْ لي بحقِّ اللهِ كيف سأكتبُ | وعيونُهُ نابٌ يَعُضُّ ومخلبُ
|
ويداهُ ضاغطتانِ فوق تَنَفُّسِي | فإذا شَهقْتُ فذاكَ ما يَتَسرَّبُ
|
***
|
إنْ قلتُ واهاً قال ذاكَ تمردٌ | أوْ قلتُ آهاً قالَ ذاكَ تهرُّبُ
|
أوْ قلتُ وا رباهُ قال تَطَرُّفٌ | أوْ قلتُ يا لَلظلمِ قالَ مُخرِّبُ
|
أوْ صُغْتُ شِعراً بالرُّضاب أجابني: | مُتهتِّكٌ، مُتفسِّخٌ ومُشبِّبُ
|
أو قلتُ يا سلمي نهاني مُعرِضاً | حتى تكونَ مَطالعي... يا زينبُ
|
أو قُلتُها بائيةً عصماءَ قالَ | النونُ أوقعُ ههنا أوْ أنسَبُ
|
وإذا حكيتُ عنِ العصافيرِ الملوَّنةِ | التي قُتلتْ أشاحَ يُكذِّبُ
|
وإذا بكيتُ على الخيولِ رأيتُها | مذبوحةً بالأمسِ قال تُؤلِّبُ
|
وإذا هَمَمَتُ بأنْ أطارحَها الهوى | تلكَ التي دمعَ الفيجعةِ تَشرَبُ
|
أو جئتُ من حيثُ الرجالُ تَقَحَّموا | شَزَراً رماني قائلاً: تَتَنكَّبُ؟!
|
هذا صراطي إنْ أردتَ فمرحبا | وإذا أبيتَ فبابُ ناريَ أَرَحبُ
|
***
|
أنا كَمْ وقفتُ مُحذِّراً هذا الذي | يَدْوي بأعماقي ولا يتهيَّبُ
|
وبَرئتُ منهُ مُجابِهاً متحدياً | لكنهُ ولدي، الأعزُّ الأقربُ
|
وبكيتُ في الليلِ البهيمِ أَضمُّهُ | وأشمُّ ما بين السطورِ وأحَدُبُ
|
شِعري! حبيبي كلُّ ما كتبتْ يدِي | أدركتُ أنكَ خافقي المتعذِّبُ
|
أدركت لكنَّ الحصارَ كما تَرَى | نارٌ على نَهَمٍ تَشبُّ وتَنْشُبُ
|
إنَّ الحصارَ على فمي وعلى دمي | وعلى مساماتي فأين المهرَبُ؟
|
وخدعتُه متأبِّطاً شَرِّي وخيري | مُظهِراً خوفي الذي يَتطلَّبُ
|
وقمعتُ صوتي واقتلعتُ جوانحي | وسَكَتُّ والبومُ المنفِّرُ ينعُبُ
|
ولقد يكونُ الصمتُ أبلغَ منطقاً | إن كان قاضيَنا (جُحاً) أو (أشعبُ)
|
أنا أعرفُ الفخَّ المركَّبَ إنْ أنا | صرَّحتُ متُ وإذ أُلَمِّحُ أُضرَبُ
|
وإذا صَمّتُ اغتالني وجعُ الغناءِ | ولو أُغنِّي بالحياةِ أُغيَّبُ
|
أنا ذلك الجرحُ المُمِضُّ مُمَدَّداً | ويزيدُ إيلاماً إذا أتقلَّبُ
|
قلمي على كتفي وبحري عاصفٌ | حلكَ الظلامُ وضاعَ مني المركَبُ
|
***
|
عَتَبي على الأيامِ أعطتني الذي | أَخَذَتْ أسىً مني! وجاءتْ تَعتُبُ!
|
ما نفعُهُ؟ إن كانَ يُعطى في يدٍ | وبألفِ رِجْلٍ بعدَ ذلِكَ يُسلَبُ
|
وإذا حَرمتَ الطيرَ صَدْحَ نشيدِها | فالموتُ أرحمُ عندها أو أعذبُ
|
كم منحةٍ صارتْ بقايا محنةٍ | وكمِ انكوى بالصمتِ فَذٌ أنَجَبُ
|
وكم الجمالُ اللّدْنُ كانَ شقاوةً | للفاتناتِ معذِّباً يَتَعذَّبُ
|
أنا لستُ أدري كيف أملكُ أحرُفي | إن كنتُ لا أرتادُها وأنقِّبُ
|
أو كنتُ لا أتَحَسَّسُ الحرفَ الجميلَ | وأنتقي شاماتِه وأرتِّبُ
|
أنا لستُ أدري لستُ أدري مطلقاً | كيف السبيلُ ونزفُ روحيَ يُنهَبُ
|
***
|
خُذ ما تشاءُ، ودَعْ ذئابَكَ في دمي | وَأْمُرُهُمُ أنْ يأكلوا أو يَشربوا
|
ولْيلعقوا الشِّعرَ المسافرَ في عروقيَ | مثلَ ماءِ المسكِ أو فليسْحَبوا
|
خيراً تَكَدَّسَ مثل أمطارِ القوافي | مُغدِقاً متزايداً لا يَنْضُبُ
|
أني أنا البئرُ المقدَّسةُ التي | نَضحتْ على الأيامِ شِعْراً يُشرَبُ
|
وهَدَتْ طيورَ البرِّ تروي حرَّها | طابَ الهوى عندي وطابِ المشرَبُ
|
أنا لهفةُ المحرومِ والظمآنِ والجوعانِ | شِعريَ للأسى يَتَعَصَّبُ
|
أنا جئتُ من حيثُ القبيلةُ أَعَلَنتْ | أني أبو ذرٍّ وَأَنَّيَ مُصعبُ
|
وأنا نقوشُ العزِّ والفتحُ الذي | ضَجَّتْ له الدنيا وضاقَ الكوكبُ
|
وأنا ضميرُ الخيلِ في ساحِ الوَغى | أرأيتَ خيلاً في الوَغى تَتَجَنَّبُ
|
وأنا أكفُّ الحاملينَ شهيدَهم | وأنا الهتافُ بمجدِه والموكبُ
|
وأنا صلاةُ الفجرِ تشهقُ بعدما | ذُبِحَ المصَّلونَ الذينَ تَأَهَّبوا
|
وأنا غبارُ "القدسِ" يَسْكنُ مهجتي | والمسجدُ الأقصى أنا أو "يثربُ"
|
وأن قلاعُ الشامِ ترنو للعلا | وأنا إلى "الفسطاطِ" مِنِّيَ أقربُ
|
وأنا "العراقُ" مُسَبِّحٌ بأصابعي | وهُنا على صدري يُصلي "المغربُ"
|
وأنا الذي وشَّى الحروفَ عباءةً | فأحبَّها أهلُ النُّهى فَتَعَرَّبوا
|
وأنا ومنذُ (السيلِ) كنتُ مناهضاً | للقمعِ في شِعري وتَشْهدُ "مأرِبُ"
|
***
|
أنا رجعُ أصواتِ الملايين الذين | بكلِّ ظُلمٍ جُوِّفوا أو ثُقِّبوا
|
وأنا هديرُ الهمسِ بينَ شفاهِهمْ | وجبينُهمْ بالمُرِّ راحَ يُقطِّبُ
|
وأنا المناديلُ المطرِّزةُ التي | رَحَلَتْ معَ البؤساءِ حيثُ تَغَرَّبوا
|
وأنا أبو الأطفالِ أنثرُ بينهمْ | كَبِدي وأتركُها لهمْ كي يَلْعَبوا
|
وإذا أرادوا النومَ كانتْ مُقلتي | مَهْداً وكانَ غطاؤهم ما أَكْتُبُ
|
وأنا طبيبُ العاشقينَ خَبَرتُهمْ | فعرفتُ أن الداءَ أنْ يتطَبَّبوا
|
ووصفتُ شِعري كلَّ يومِ مرةً | بعدَ العَشاءِ لهمْ شراباً يُسكَبُ
|
فتجمهروا عندي فقلتُ إليكمُ | شعري رحيقُ العاشقين فجرِّبُوا
|
كلُّ النساءِ تُحِّبُّ شِعريَ رقَّةً | ويذوبُ قلبُ القاسياتِ ويَطرَبُ
|
وترى الرجالَ إذا وقفتُ مُغنّياً | قالوا أَعِدْ فأعدتُهُ .... فتعجَّبوا
|
***
|
إلاّ (صديقي) لا يزالُ مُرَدِّداً | بالشِّعِرِ جئتُ متاجراً أَتَكَسَّبُ
|
ويُهينُ أوراقي ويعرفُ أنها | دمعي! أفضِّضُهُ أنا وأُذَهِّبُ
|
أنا ما عرفتُ الحقدَ كيفَ بشاعرٍ | قد عاشَ طولَ العمرِ حُبَّاً يَحلُبُ
|
لكنني ماذا أُسَمِّي قمعَهُ | إنْ لمْ يكنْ حِقداً فماذا أقربُ؟
|
حاولتُ تفسيرَ النصوصِ كما يرى | وإذا رأيتُ خلافَ ذلكَ يَغْضَبُ
|
***
|
إِغضبْ فإني لنْ أكونَ سوى أنا | قلمٌ على أوراقِ كُرْهكَ مُعشِبُ
|
إِمنعْ فإنَّ فحولتي تأبى الرَّدى | أنتَ العقيمُ وماءُ شِعريَ مُخصِبُ
|
أَجْهضْ فإنَّ أجنَّتي ملءُ الدُّنا | إنِّي الولودُ ورغمَ أنفِكَ أُنجِبُ
|
رَحِمي هي التاريخُ فاستفتِ الذي | عرفَ القراءةَ كيفَ أني الأخصَبُ
|
إني أنا الأمطارُ والرعدُ الذي | ملأَ البلادَ وأنتَ بَرْقٌ خُلَّّبُ
|
إني أنا الأبقى وانتَ مقامرٌ | يأتي وقبل الفجرِ حتماً يَذهبِ
|
إني عصا موسى فهاتِي أمامها | سِحْراً وحشداً جمعُه يتذبذبُ
|
شِعري سيلقفُ إفكَ سِحرِكَ في ضحىً | فأنا بإذن الله دوماً أغلبُ
|
حاصِرْ شِفَاهيَ بالمقارضِ إنني | فوقَ الحصارِ مخلَّدٌ ومقرَّبُ |