الفصاحة المعجزة

ورُوِيَ عَن الأصمَعي قال: اجتَزتُ بِبَعضِ أحياءِ العربِ، فرأيتُ صَبِيَّةً مَعَها قِربةٌ فيها ماءٌ وقد انحَلَّ وِكاءُ فَمِها. فقالت: يا عَمّ، أدرِكْ فاها ، قَد غَلبَني فوها، لا طاقَةَ لي بِفيها [1] . فأعنتُها، وقُلت: يا جارية، ما أفصحكَ! فقالت يا عمّ، وهل تَركَ القرآنُ لأحدٍ فصاحةً ؟ وفيه آيةٌ فيها خَبران وأمران ونَهيان وبِشارَتان ! قلت: وما هي ؟ قالت: قوله تبارك وتعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ } [ القصص 7 ] قال: فَرَجَعتُ بِفائدةٍ، وكأنّ تلك الآية ما مرّت بِمسامِعي مِن قبل!

م ن ق و ل

الله الله

نعم مهاجرنا الفذ

سر الفصاحة في الآية - أمران - ونهيان - وبشارتان

وهذا من وجهة نظري ما دعا شاعرنا أن يختصر جدا في الرد حيث قال _ الله الله -

وأحمد ربي على إطلالته ولا يعتب إلا من ( يحب ) ؟؟؟؟


وإغناء للموضوع أقول :

إن للفصاحة والبيان أهمية كبرى عند العرب ..
ولعلها تقع في الذروة من جلّ اهتماماتهم .. ومما برعوا فيه..
والشاهد الحي على ذلك كون معجزة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت بيانية..

إذ أن معجزات الأنبياء كانت من جنس ما برع به أقوامهم ..
لهذا بعث رسولنا صلى الله عليه وسلم في أمة أمية لم يكن لها من هوى إلا الفصاحة والبيان..
ولم يكن لها من علم الا الشعر والحكمة..

وفي هذا يقول الفاروق: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه
فهي أمة سجدت للبيان أكثر من سجودها للأوثان .. آية ذلك أنها كانت تقيم له الأسواق كسوق عكاظ..

لا نبالغ إذا قلنا إن الفصاحة عند العرب من أجلّ مكارمهم ومن أعظم ما يتغنون به من المآثر والصفات..
بل هي قيمة جمالية لا تعدلها قيمة أخرى..

و قد امتدح نبينا صلى الله عليه وسلم الشعر والبيان قائلا:

إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة

ولو تتبعنا سيرة الرسول الكريم والصحابة والتابعين لوجدناها مليئة بالحث على التحلي بالفصاحة والبيان وامتلاك ناصية الكلام والنفور من اللحن..

فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم وقد سمع لحنا:"ارشدوا اخاكم فإنه قد ضلّ"
فجعل اللحن ضلالا..

ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرع قوما يسيئون الرمي فقالوا:

"إنا قوم متعلمين" بدل قولهم متعلمون --- لأن خبر إنّ يكون مرفوعا وهم نصبوه

فأعرض مغضبا وقال:"والله لخطؤكم في لسانكم أشد علي من خطئكم في رميكم"..

وكثير هم من ألـفّـوا للأدب وشرّعوا للناس طرائق البيان وأصوله .. ويبنوا أحكامه وفصوله.. واختاروا نماذج من أروع أمثلته.. وعالجوا ما ينتابه من علل وأمراض ..

ولعل أول من عالج هذه العلل أمير البيان (الجاحظ) في كتابه البيان والتبيين وقد استهله بدعاء
قال فيه:
اللهم إنا نعوذ بك من فتنة القول كما نعوذ بك من فتنة العمل, ونعوذ بك من التكلف لما لا نحسن كما نعوذ بك من العُجب بما نحسن, ونعوذ بك من السلاطة والهذر, كما نعوذ بك من العيّ

والحصر, وقديما تعوذوا بالله من شرهما , وتضرعوا إلى الله في السلامة منهما..

وقد قال النمر بن تولب:

أعذني ربِّ من حصر وعيّ ............ومن نفس أعالجها علاجا

وجملة القول ..

إن الفصاحة تبدأ من اعتماد العربية والتمرس بها والترفع عن العامية واللهجات المحلية..
ثم تقوّى باجتناب ما قد يشوب اللغة من عيوب وأمراض في الكلام..

ويكتمل أمرها أخيرا بتعلم أحكام البلاغة التي تجعل من الفصاحة بيانا يُتذوق وكلاما يُستمتع به فضلا عما يشتمل عليه من مضمون..
__________________

وتنتهي الفصاحة بحكمة - تعالوا نتأملها

** تحاورت شجرة من الحسك و شجرة من الورد..

** فزهت الوردة زهواً عاطراً بطبيعة العطر في مادتها..

** فقالت لها الحسكة: ويحكِ ما هذا الزهو الذي أفسدتِ به محلكِ من نفسي..

** قالت الوردة في كلام هو عطر آخر: لا تتعبي نفسكِ في تحقيري فلست أفهم
لغة الشوك إلا إذا كان ينبت الورد..

- ودمتم ودامت أيامكم عفوا وعافية