"الجومة"... لوحات من التراث الفراتي

"الجومة"... لوحات من التراث الفراتي

محمد الحسين - هاني آصف الشويخ

الخميس 13 كانون الثاني 2011

رافقت "الجومة" سكان الفرات منذ فجر الحضارات الأولى التي قامت على ضفافه، حيث تعرض لنا إحدى الرسوم الجدارية التي عثر عليها في ماري لوحة لرجال يحيكون المنسوجات على هذه الآلة، ما يشكل شاهدا على عراقتها وقدمها، لأن المنسوجات التي تعطيها مفيدة في الاستخدام اليومي للإنسان، إضافة لما تتمتع به من قيمة فنية.

ولتسليط الضوء على هذه الآلة البسيطة وطريقة عملها وأجزائها، وأنواع المنسوجات التي تنتجها، زارت مدونة وطن الحاج "محمود العبد الحجي" في منزله بقرية "الجفرة"، ويلقب "بالحايك" عند أهالي "دير الزور"، والذي بدأ حديثه معنا بالقول:

« "الجومة" من أقدم الآلات اليدوية هذه الآلة ورثتها عن أبي والذي ورثها بدوره عن جدي فعمرها يزيد على مئة وخمسين عاماً، وتسمى في بعض المحافظات "النول"، وتتكون من هيكل خشبي على شكل مستطيل ومؤلف من عدة طبقات، ويدخل الحديد في تركيبها ولكن بأجزاء بسيطة، وتوضع "الجومة" في حفرة بعمق من 70- 80 سم، وتتألف من عدة أجزاء منها "المطواة " وهي عبارة عن قطعة خشبية يلف عليها ناتج النسج حتى لا يلامس الأرض ويتسخ، وكذلك حتى لا يعيق "الحائك"، ويلف عليها الناتج بواسطة قطعة حديدية بطول 60سم وتقوم بقلب قطعة الخشب مجرد تحريكها وتسمى"المفرك"، ومن أهم الأجزاء هو "الدفاف" وهي دفتان من الخشب علوية وسفلية مهمتها تعشيق الصوف، والذي يتخللها "البزار" وهو مؤلف من حديد وخشب حيث يمر من بين خيوط الصوف حاملاً معه خيط جانبي ليساعد على تماسك ناتج النسج.

ومن أهم أجزاء "الجومة" "الدواسات" وهي من الخشب ومعلقة بالنيرة ومؤلفة من أربع عصي تدخل منها الخيطان إلى "البزار"، ومهمتها تنظيم عملية دخول الخيطان، وكذلك "الغمازات" وهي قطع خشبية مربوطة بخيطان على النيرة ومعلقة ببواري الحديد من الأعلى».

وللجومة آلية عمل تعتمد على تكرار مجموعة من الخطوات تتم بالتناوب وذلك لتعشيق الخيوط بعضها مع بعض حتى تعطي بالمحصلة نسيجاً بألوان وأشكال مختلفة، وذلك بحسب أذواق
منتوجات الجومة
الناس التي تحب اقتناء ما تنسجه هذه الآلة من تحف فنية، لخصها لنا الحاج "محمود" بقوله:

«في البداية يتم وضع خيوط الصوف على "الجومة" ويحدد طولها بحسب القطعة المراد نسجها، بعد ذلك نقوم بالدعس على الدواسة اليمنى بواسطة القدم اليمنى، فيتم بهذه العملية فتح "السدى" أي خيوط الصوف، وهنا يأتي دور المكوك الذي ينقل بواسطة اليد اليمنى إلى جهة اليسار، بعدها يدعس على الدواسة اليسرى بواسطة القدم اليسرى لتصبح العملية عكسية من أجل تعشيق الصوف».

والحايك ليس مجرد رجل يقوم بنسج البسط والسوح إنما هو فنان وبارع في جعل منتجاته عبارة عن لوحات غاية في الجمال والروعة، أوضح لنا هذه البراعة بقوله:

«هنا تأتي براعة النساج في اختيار الألوان والأشكال الهندسية بما يتلاءم مع البيئة الفراتية، فيكون اللون الأخضر متطابقا مع الأصفر، والأحمر مع الأبيض والأسود، ويتم تطبيق الرسوم بعدد الخيط فيتم اختيار خيوط صغيرة تسمى "العَملة"، وهي مجهزة مسبقاً بالألوان المراد إدخالها في المنتج لتكون جاهزة لتدخل ضمن الشكل المراد تطبيقه، ومن الأشكال التي يتم تطبيقها على البساط رسمة "حجاب" وهي مثلثة الشكل ومجموعة حجب تشكل رسمة، وكذلك "عَملة" نصف صينية، ومن ثم صينية كاملة وحسب الألوان المرغوب فيها، وكذلك رسمة دلال القهوة العربية، والنِجر الذي يستخدم في طحن القهوة، ومن الممكن أيضاً رسم بعض حيوانات البادية، كالذئب والغزال والطير الحر والجمل، وكذلك تدخل رسمة الكعبة المشرفة والمسجد النبوي الشريف والمسجد الأقصى في القطع المعدة للصلاة عليها "مساجد الصلاة"، أو المعدة للتعليق على الحائط كنوع من الزينة».

وتنسج "الجومة"

أحجام مختلفة من المنسوجات، وباستخدام خيوط من مصادر عديدة كالصوف أو "الخرق" وهي من بقايا الألبسة"، وذلك لصناعة كثير من القطع التي تستخدم في المنازل كسجاجيد الصلاة أو أغطية الوسائد، أو لحياكة السرج الذي يوضع على حيوانات الركوب، هذا ما بينه لنا الحاج "محمود" من خلال الشرح التالي:

«ننسج على "الجومة" البسط الصغيرة والكبيرة والمؤلفة من ثلاث "شقف" أي "قطع" يتم تطبيق الرسوم بجانب بعضها بشكل دقيق، وكذلك ننسج السوح المستخدمة في بيوت الشعر وبيوت أهل الريف، وهي كبيرة وترسم فيها صواني بأبعاد 50 * 70 سنتيمترا، وأيضاً يتم نسج بسط الخرق حيث تفز كل لون على حدة وتبرم بالدوك على شكل خيطان ومن ثم تنسج منها البسط، وأيضاً أغطية الوسائد، ومساجد الصلاة، وكذلك تنسج عليها "الخيشة" أو "الفردة " وهي توضع بداخلها المؤن الشتوية كالطحين، وكذلك "الخرج" الذي يوضع على ظهر الحصان وهو مفتوح من الجانبين ليضع الفارس بداخله زوادته أثناء السفر».

الباحث الأستاذ "عيدان العمران" حدثنا عن تاريخ هذه الآلة البسيطة بقوله: «هي من أقدم آلات النسيج حيث ظهرت ضمن الرسومات الجدارية في تل "بقرص" الأثري 6900 ق.م، والذي يقع شرقي مدينة "دير الزور" بحوالي 35 كم، وأيضاً في رسومات مملكة "ماري " 3000 ق.م، وهذا مايدل على قدمها وعراقتها، وبقيت تنتج المنسوجات حتى دخول صناعة السجاد اليدوي والآلي، و"الجومة" الموجودة حالياً عند الحاج "محمود الحجي" هي الوحيدة، والتي مازالت تعمل في مدينة "دير الزور"، وتصدرت منتوجاتها المهرجانات والمتاحف وشاركت في المعارض التراثية».

ولمعرفة وجهة النظر التشكيلية بما

تنتجه "الجومة" من قطع كالتحف الفنية جودة وجمالاً، التقينا بالفنان التشكيلي "غسان رمضان"، والذي بين لنا القيمة الفنية لهذه المنسوجات بالقول: «تكمن روعة المنسوجات التي تحيكها "الجومة" بأن فيها فرصة لإظهار براعة النساج سواء باختيار موضوع اللوحة أو بدقة النسج، مما يجعل القطع المنسوجة أعمال فنية تحمل بصمة من يحيكها ».

بالرغم من دخول الآلات الحديثة، وتطور الصناعة بشكل كبير، بقيت جومة الحاج " محمود الحايك" محافظة على أصالتها وعراقتها، ولوحة من لوحات تراث "ديرا لزور" العريق والغني بمفرداته، وشاهد على مهارة وبراعة أبناء الفرات.

» حكايات من التراث ان من البيان لسحرا
» القهوة المُرّة في التراث العربي